الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
(فَإِنْ قِيلَ): إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمَرْوِيَّ عَنْ جِبْرِيلَ عليه السلام مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَكَانَ وُقُوعُهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ تَصْدِيقُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ سُنَنِ الْكَائِنَاتِ: (قُلْتُ): نَعَمْ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لِقَبُولِ الرِّوَايَةِ فِي أَمْرٍ جَاءَ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي أَقَامَ اللهُ بِهَا نِظَامَ الْعَالَمِ مِنْ عُمْرَانٍ وَخَرَابٍ، أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْ وَحْيٍ إِلَهِيٍّ نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مُتَّصِلِ الْإِسْنَادِ لَا شُذُوذَ فِيهِ وَلَا عِلَّةَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ اللهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ دُونَ الصَّحَابَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمِمَّا قَالُوهُ فِيهَا أَنَّ عَدَدَ أَهْلِهَا كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَبِلَادُ فِلَسْطِينَ كُلُّهَا لَا تَسَعُ هَذَا الْعَدَدَ فَأَيْنَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَلَايِينُ يَسْكُنُونَ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى الْأَرْبَعِ؟وَهَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ الْمُشَوَّهَةُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَغَيْرِهَا مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عِنْدَ بَاثِّيهَا مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ فِي تَوْرَاتِهِمْ، وَمُلَخَّصُ مَا فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ الْخَاصِّ بِلُوطٍ عليه السلام وَقَوْمِهِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَاهُ بِصُورَةِ رَجُلَيْنِ ضَرَبَا بِالْعَمَى جَمِيعَ قَوْمِهِ وَقَالَا لَهُ: أَصْهَارَكَ وَبَنِيكَ وَبَنَاتِكَ وَكُلَّ مَنْ لَكَ فِي الْمَدِينَةِ أَخْرِجْ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ؛ لِأَنَّنَا مُهْلِكَانِ أَهْلَ هَذَا الْمَكَانِ؛ إِذْ قَدْ عَظُمَ صُرَاخُهُمْ أَمَامَ الرَّبِّ فَأَرْسَلَنَا الرَّبُّ لِنُهْلِكَهُ فَخَرَجَ لُوطٌ وَكَلَّمَ أَصْهَارَهُ الْآخِذِينَ بَنَاتَهُ وَقَالَ قُومُوا وَاخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْمَكَانِ لِأَنَّ الرَّبَّ مُهْلِكُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ كَمَازِحٍ فِي أَعْيُنِ أَصْهَارِهِ، وَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ كَانَ الْمَلَاكَانِ يُعَجِّلَانِ لُوطًا قَائِلِينَ: قُمْ خُذِ امْرَأَتَكَ وَابْنَتَيْكَ الْمَوْجُودَتَيْنِ لِئَلَّا تَهْلَكُ بِإِثْمِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَخْرَجَاهُ وَدَفَعَاهُ إِلَى مَدِينَةٍ اسْمُهَا صَوْغَرُ وَوَعَدَاهُ بِعَدَمِ إِهْلَاكِهَا وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ وَبِنْتَاهُ، وَأَمَرَاهُ بِأَلَّا يَنْظُرَ وَرَاءَهُ (ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَى الْأَرْضِ دَخَلَ لُوطٌ إِلَى صَوْغَرَ فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُّورَةَ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُلِبَتْ تِلْكَ الْمُدُنُ وَكُلُّ الدَّائِرَةِ وَجَمِيعُ سُكَّانِ الْمُدُنِ وَنَبَاتُ الْأَرْضِ، وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ، وَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْغَدِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ أَمَامَ الرَّبِّ وَتَطَلَّعَ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ وَنَحْوَ كُلِّ أَرْضِ الدَّائِرَةِ، وَنَظَرَ وَإِذَا دُخَانُ الْأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ الْأَتُونِ).وَمُقْتَضَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مَعَ لُوطٍ إِلَّا ابْنَتَانِ لَهُ. وَقَدْ خَتَمَ الْفَصْلَ بِمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ كَغَيْرِهِ مِمَّا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَتَيْ لُوطٍ النَّاجِيَتَيْنِ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِكْرًا وَالْأُخْرَى ثَيِّبًا، وَأَنَّهُمَا أَسْكَرَتَا أَبَاهُمَا بِالْخَمْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَبَاتَتَا مَعَهُ فَحَمَلَتَا مِنْهُ، وَوَلَدَتَا أَوْلَادًا وَبَقِيَ نَسْلُهُمَا مِنْهُ مُتَسَلْسِلًا. يَقُولُ الْكَاتِبُ: (إِلَى الْيَوْمِ) وَهُمُ الْمُوَابِيُّونَ وَبَنُو عَمُونَ! فَمَنْ كُتَبَ هَذَا وَمَتَى كَتَبَهُ؟ هَذَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ- تَعَالَى-، وَكُلُّ مَا خَالَفَ الْقُرْآنَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَا فَسَّرْنَاهُ بِهِ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ. اهـ.
.قال سيد قطب في الآيات السابقة: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)}يلم السياق في مروره التاريخي بالمستخلفين من عهد نوح، وبالأمم التي بوركت والأمم التي كتب عليها العذاب.. يلم بطرف من قصة إبراهيم، تتحقق فيه البركات، في الطريق إلى قصة قوم لوط الذين مسهم العذاب الأليم. وفي قصتي إبراهيم ولوط هنا يتحقق وعد الله بطرفيه لنوح: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} وقد كانت البركات في إبراهيم وعقبه من ولديه: إسحاق وأبنائه أنبياء بني إسرائيل. وإسماعيل ومن نسله خاتم الأنبياء المرسلين.{ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى}..ولا يفصح السياق عن هذه البشرى إلا في موعدها المناسب بحضور امرأة إبراهيم! والرسل: الملائكة. وهم هنا مجهولون، فلا ندخل مع المفسرين في تعريفهم وتحديد من هم بلا دليل.{قالوا سلامًا قال سلام}..وكان ابراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق، وعبر الأردن، وسكن في أرض كنعان في البادية وعلى عادة البدو في إكرام الأضياف راح إبراهيم يحضر لهم الطعام وقد ظنهم ضيوفًا: {فما لبث إن جاء بعجل حنيذ}..أي سمين مشوي على حجارة الرضف المحماة.ولكن الملائكة لا ياكون طعام أهل الأرض: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه}.أي لا تمتد إليه.{نكرهم وأوجس منهم خيفة}.فالذي لا يأكل الطعام يريب، ويشعر بأنه ينوي خيانة أو غدرًا بحسب تقاليد أهل البدو.. وأهل الريف عندنا يتحرجون من خيانة الطعام، أي من خيانة من أكلوا معه طعامًا! فإذا امتنعوا عن طعام أحد فمعنى هذا أنهم ينوون به شرًا، أو أنهم لا يثقون في نياته لهم.. وعند هذا كشفوا له عن حقيقتهم: {قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط}.. وإبراهيم يدرك ما وراء إرسال الملائكة إلى قوم لوط! ولكن حدث في هذه اللحظة ما غير مجرى الحديث: {وامرأته قائمة فضحكت}.. وربما كان ضحكها ابتهاجًا بهلاك القوم الملوثين: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}.. وكانت عقيمًا لم تلد وقد أصبحت عجوزًا. ففاجأتها البشرى بإسحاق. وهي بشرى مضاعفة بأن سيكون لإسحاق عقب من بعده هو يعقوب. والمرأة وبخاصة العقيم يهتز كيانها كله لمثل هذه البشرى، والمفاجأة بها تهزها وتربكها: {قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخًا إن هذا لشيء عجيب}.. وهو عجيب حقًا. فالمرأة ينقطع طمثها عادة في سن معينة فلا تحمل. ولكن لا شيء بالقياس إلى قدرة الله عجيب: {قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.. ولا عجب من أمر الله. فالعادة حين تجري بأمر لا يكون معنى هذا أنها سنة لا تتبدل.وعندما يشاء الله لحكمة يريدها وهي هنا رحمته بأهل هذا البيت وبركاته الموعودة للمؤمنين فيه يقع ما يخالف العادة، مع وقوعه وفق السنة الإلهية التي لا نعلم حدودها، ولا نحكم عليها بما تجري به العادة في أمد هوعلى كل حال محدود، ونحن لا نستقرئ جميع الحوادث في الوجود.والذين يقيدون مشيئة الله بما يعرفونه هم من نواميسه لا يعرفون حقيقة الألوهية كما يقررها الله سبحانه في كتابه وقوله الفصل وليس للعقل البشري قول في ذلك القول وحتى الذين يقيدون مشيئة الله بما يقرر الله سبحانه أنه ناموسه لا يدركون حقيقة الألوهية كذلك! فمشيئة الله سبحانه طليقة وراء ما قرره الله سبحانه من نواميس. ولا تتقيد هذه المشيئة بالنواميس.نعم إن الله يجري هذا الكون وفق النواميس التي قدرها له.. ولكن هذا شيء والقول بتقيد إرادته بهذه النواميس بعد وجودها شيء آخر! إن الناموس يجري وينفذ بقدر من الله في كل مرة ينفذ فيها. فهو لا يجري ولا ينفذ آليًا. فإذا قدر الله في مرة أن يجري الناموس بصورة أخرى غير التي جرى بها في مرات سابقة كان ما قدره الله ولم يقف الناموس في وجه القدر الجديد.. ذلك أن الناموس الذي تندرج تحته كل النواميس هو طلاقة المشيئة بلا قيد على الإطلاق، وتحقق الناموس في كل مرة يتحقق فيها بقدر خاص طليق.وإلى هنا كان إبراهيم عليه السلام قد اطمأن إلى رسل ربه، وسكن قلبه بالبشرى التي حملوها إليه. ولكن هذا لم ينسه لوطًا وقومه وهو ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن قريبًا منه وما ينتظرهم من وراء إرسال الملائكة من هلاك واستئصال. وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودود لا تجعله يطيق هلاك القوم واستئصالهم جميعًا: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن أبراهيم لحليم أواه منيب}.والحليم الذي يحتمل أسباب الغضب فيصبر ويتأنى ولا يثور. والأوّاه الذي يتضرع في الدعاء من التقوى. والمنيب الذي يعود سريعًا إلى ربه.. وهذه الصفات كلها قد دعت إبراهيم أن يجادل الملائكة في مصير قوم لوط وإن كنا لا نعلم كيف كان هذا الجدال لأن النص القرآني لم يفصله، فجاءه الرد بأن أمر الله فيهم قد قضي وأنه لم يعد للجدال مجال: {يا أبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}..ويسكت السياق. وقد سكت ولا شك إبراهيم.. ويسدل الستار على مشهد إبراهيم وزوجه ليرفع هناك على مشهد حافل بالحركة والانفعال مع لوط. وقوم لوط في مدن الأردن: عمورية وسدوم.{ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا وقال هذا يوم عصيب}.لقد كان يعرف قومه. ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين. إذ يتركون النساء إلى الرجال، مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الأحياء جميعًا أزواجًا، كي تمتد الحياة بالنسل ما شاء لها الله. والتي تجد اللذة الحقيقية في تلبية نداء الحكمة الأزلية، لا عن تفكير وتدبير، ولكن عن اهتداء واستقامة. والبشرية تعرف حالات مرضية فردية شاذة، ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة. وهي تشير إلى أن المرض النفسي يعدي كالمرض الجسدي. وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لاختلال المقاييس في بيئة من البيئات، وانتشار المثل السيئ، عن طريق إيحاء البيئة المريضة. على الرغم من مصادمته للفطرة، التي يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة. الناموس الذي يقتضي أن تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة لا فيما يصادمها ويعدمها. والشذوذ الجنسي يصادم الحياة ويعدمها، لأنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد لاستقبالها وإحيائها. بدلًا من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها. ومن أجل هذا تنفر الفطرة السليمة نفورًا فطريًا لا أخلاقيًا فحسب من عمل قوم لوط. لأن هذه الفطرة محكومة بقانون الله في الحياة. الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما يساعد على إنماء الحياة لا فيما يصدمها ويعطلها.ولقد نجد أحيانًا لذة في الموت في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا ولكنها ليست لذة حسية إنما هي معنوية اعتبارية. على أن هذه ليست مصادفة للحياة، إنما هي إنماء لها وارتفاع بها من طريق آخر. وليست في شيء من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة وخلاياها..سيئ لوط بأضيافه. وهو يعلم ما ينتظرهم من قومه، ويدرك الفضيحة التي ستناله في أضيافه: {وقال هذا يوم عصيب}!وبدأ اليوم العصيب!{وجاءه قومه يهرعون إليه}.. أي يسرعون في حالة تشبه الحمى.{ومن قبل كانوا يعملون السيئات}..وكان هذا ما ساء الرجل بضيوفه، وما ضيق بهم ذرعه، وما دعاه إلى توقع يوم عصيب!ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره، يهددونه في ضيفه وكرامته. فحاول أن يوقظ فيهم الفطرة السليمة، ويوجههم إلى الجنس الآخر الذي خلقه الله للرجال، وعنده منه في داره بناته، فهن حاضرات، حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور، وسكنت الفورة المحمومة والشهوة المجنونة!{قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد}..{هؤلاء بناتي هن أطهر لكم}..أطهر بكل معاني الطهر. النفسي والحسي. فهن يلبين الفطرة النظيفة، ويثرن مشاعر كذلك نظيفة. نظافة فطرية ونظافة أخلاقية ودينية. ثم هن أطهر حسيًا. حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمنًا كذلك طاهرًا نظيفًا.{فاتقوا الله}.. قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد ان لمسها من ناحية الفطرة.{ولا تخزون في ضيفي}.. قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلاقًا.{أليس منكم رجل رشيد}..فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة.. ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة المنحرفة المريضة، ولا القلوب الميتة الآسنة، ولا العقول المريضة المأفونة. وظلت الفورة المريضة الشاذة في اندفاعها المحموم: {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد}.. لقد علمت لو أردنا بناتك لتزوجناهن. فهذا حقنا: {وإنك لتعلم ما نريد}.. وهي إشارة خبيثة إلى العمل الخبيث.وأسقط في يد لوط، وأحس ضعفه وهو غريب بين القوم، نازح إليهم من بعيد، لا عشيرة له تحميه، وليس له من قوة في هذا اليوم العصيب؛ وانفرجت شفتاه عن كلمة حزينة أليمة: {قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد}..قالها وهو يوجه كلامه إلى هؤلاء الفتية الذين جاء الملائكة في صورتهم وهم صغار صباح الوجوه؛ ولكنهم في نظره ليسوا بأهل بأس ولا قوة. فالتفت إليهم يتمنى أن لو كانوا أهل قوة فيجد بهم قوة. أو لو كان له ركن شديد يحتمي به من ذلك التهديد!وغاب عن لوط في كربته وشدته أنه يأوي إلى ركن شديد. ركن الله الذي لا يتخلى عن أوليائه. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية: «رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد».وعندما ضاقت واستحكمت حلقاتها، وبلغ الكرب أشده.. كشف الرسل للوط عن الركن الشديد الذي يأوي إليه: {قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك}.. وأنبأوه نبأهم، لينجو مع أهل بيته الطاهرين، إلا امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين: {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب}..والسرى: سير الليل، والقطع من الليل: بعضه، ولا يلتفت منكم أحد. أي لا يتخلف ولا يعوق. لأن الصبح موعدهم مع الهلاك. فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين.{أليس الصبح بقريب}..سؤال لإنعاش نفس لوط بعد ما ذاق. لتقريب الموعد وتأكيده. فهو قريب. مع مطلع الصباح. ثم يفعل الله بالقوم بقوته ما لم تكن قوة لوط التي تمناها فاعله!والمشهد الأخير. مشهد الدمار المروع، اللائق بقوم لوط: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}.. فلما جاء موعد تنفيذ الأمر: {جعلنا عاليها سافلها}.. وهي صورة للتدمير الكامل الذي يقلب كل شيء ويغير المعالم ويمحوها.وهذا القلب وجعل عاليها سافلها أشبه شيء بتلك الفطرة المقلوبة الهابطة المرتكسة من قمة الإنسان إلى درك الحيوان. بل أحط من الحيوان، فالحيوان واقف ملتزم عند حدود فطرة الحيوان.: {وأمطرنا عليها حجارة من سجيل}.. حجارة ملوثة بالطين.. وهي كذلك مناسبة وعلى قدر المقام: {منضود}.. متراكم بعضه يلاحق بعضًا.هذه الحجارة.: {مسوّمة عند ربك}.. كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة. فكأنما هذه الحجارة مرباة! ومطلقة لتنمو وتتكاثر! لوقت الحاجة.. وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس، ولا يفصح عنه التفسير، كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه.: {وما هي من الظالمين ببعيد}.. فهي قريبة وتحت الطلب، وعند الحاجة تطلق فتصيب!والصورة التي يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر البركانية التي تخسف فيها الأرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل.. وعند ربك للظالمين كثير!!!ولا نقول هذا الكلام لنقول: إنه كان بركان من تلك البراكين، ثار في ذلك الوقت، فوقع ما وقع. إننا لا ننفي هذا. فقد يكون هو الذي وقع فعلًا. ولكننا لا نجزم به كذلك ولا نقيد قدر الله بظاهرة واحدة مألوفة.. وقوام القول في هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير الله وقوع انفجار بركاني في موعده في هذا الموعد ليحقق قدر الله في قوم لوط كما قدر في علمه القديم. وهذا التوقيت والتوافق شأن من شؤون ألوهيته سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه متناسقًا مع قدره بكل شيء وبكل حي فيه.وجائز كذلك أن تكون هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة الله سبحانه لإهلاك قوم لوط على هذه الصورة التي تم بها في ذلك الحين. وفهم علاقة مشية الله بالكون على النحو الذي بيناه قريبًا في التعليق على حادثة امرأة إبراهيم، لا يبقي مجالًا لمشكلة تقوم في التصور الإنساني لمثل هذه الظواهر والأمور.. اهـ.
|